سم الخياط (قصة قصيرة)
في إحدى ليالي السبت في أواخر صيف 2013 ، عدنا إلى الفراش مبكرًا، بعد عودتنا يوم الجمعة من رحلة أسرية ممتعة لقد كنا متعبين ، جاء النوم بسهولة بمساعدة أزيز المروحة الهادئ فوق رؤوسنا.
و لكنني عشت اللحظة الواعية التالية في ومضات مفككة كان عقلي يحاول بشكل محموم وضع الأحلام في سياقها مع الواقع ، والصوت مع البصر، لا أتذكر حتى أنني أشعلت الضوء أو أنني نهضت من السرير ، كانت زوجتي إلي جواري استلقت ملفوفة في ملاءات السرير ، ورأسها محشور بين السرير والجدار، لففت ذراعي بحذر شديد حول جذعها ورفعتها بعناية ، وفجأة أدركت صراخها.
وجهتها نحوي وكان وجهها مغطى بالدماء ، لقد سابت كل أعصابي و كل أعضائي مرتجفة بشكل لا يصدق ،لقد رأيت مصدر الدم يأتي من عينها ، عينها "السليمة". لقد حاولت تهدئتها والحمدلله سرعان ما تأكدت من أن الجرح كان في عظم الحاجب وليس في العين - شكرا لك يا رب - لكن عندما انفتح الجرح واستطعت رؤية العظم ، مثل واد يعبر من خلال الجسد ، مشيت بسرعة إلى الحمام ثم إلى المطبخ ثم إلي باب الشقة ، تخبطت للحظات شعرت أنني قد أفقد نفسي، قمت برش بعض الماء البارد على وجهي وأخذت أنفاسًا عميقة وسريعة ، ثم عدت مرة أخرى إلى السيل الدموي ،وأحضرت الثلج والقطن وبعض الإسعافات الأولية .
حاولت أن أتحدث إليها لكنها كانت تغيب عن الوعي ،اتصلت بجاري الطيب أن يجهز سيارته بسرعة كي نذهب إلى المستشفى وجاءت زوجته تساعدها في ارتداء ثيابها .
وصلنا إلى قسم الطوارئ في وقت قياسي ، وسرعان ما استقبلونا وأخرجت لهم ما معي من ملفها الطبي نظر الطبيب إليه نظرة سريعة ثم تركه و هرع إلي زوجتي لإنعاش قلبها اجتمع حولها الأطباء و أنا أراقبهم من خلف الحاجز الزجاجي و في ذهني ألف فكرة كلها تؤدي إلي سؤال واحد : هل حانت النهاية ؟
و رغم أن الذهاب إلى المستشفى لا يبدوغريبًا لنا بعد كل هذه المدة وكأنه العودة إلى المنزل، إنه مكان يمكننا أن نجد فيه الأمان والمساعدة لكنه في النهاية مكان مليء بالألم يحوم حوله شبح الموت، كانت غرفة الانتظار مضاءة بشكل خافت يناسب بقية الأجواء، قطع فكري خروج الطبيب قائلاً : للأسف الأزمة هذه المرة شديدة لقد دخلت زوجتك الكريمة في غيبوبة و للحظة شعرت بصفعة على وجهي، قطعت كلام الطبيب وتوجهت تلقاء العناية المركزة ولم التفت لمنع الممرضات لي و بمنتهي السكينة أمسكت بيدها المتصلة بخراطيم عديدة قمت بهزها برفق و ملئت عيني منها ، كانوا قد وضعوا لها أنبوباً للتنفس الصناعي مع شحوب وجهها و جرح حاجبها وعينها المفقوءة و شعرها الذي لم ينبت منذ الجرعة الأخيرة للكيماوي ولكني كنت أري بياض قلبها فقط كنت أري أعمالها الصالحة تجمل روحها ، أمسك الطبيب بيدي ليخرجني من الغرفة والحق أني لم أقاومه خرجت في صمت فراح يكمل كلامه معي قائلاً: أنا آسف والله لكن هي بين يدي الله لقد أصيبت بسكتة دماغية و أجهزة الجسم كلها تقريبا تعمل ببطء شديد - سامحني - و لكن إن أردتم أن تجهزوا للجنازة فافعلوا ، رمقت الطبيب بنظراتي ثم شكرته و توجهت إلي الحاجز الزجاجي اتابع مايحدث و بالرغم من كلام الطبيب إلا أن الأمل كان يسكن قلبي لعل و عسي جاءني جاري يقف جواري قائلا: أنا سأذهب لتجهيز كل شيئ ، هل تريد مني أن أبلغ أقاربكم؟
رمقته بنظرة كتلك التي نظرتها للطبيب قائلا: لا . . لا انتظر لا تفعل أي شيئ ، و لا تخبر إلا أمها وأسرتها بمكاننا الآن أمسك بهاتفه و مشي بعيداً وعدت أنا ببصري إلي رفيقتي أرمقها و أتذكر كل خيرفعلته معي أو أمامي في يوم من الأيام ، و بينما أنا كذلك إذ جاءني طبيب شاب يحدثني عن الصبر و الرضا و في الحقيقة كان كلامه برداً و سلاماً علي قلبي ثم قال لي ما رأيك نحن الآن في وقت السحر و يوجد مُصلي هنا علي بعد خطوات توضأ وارفع أكف الضراعة لله ثم انصرف ، وبالفعل عكفت رافعا يداي بكل صدق متوسلاً لله أن تكون النجاة أو خاتمة السعادة .
ـــــ
(داخل العناية)
أما في العناية فقد كان الصمت سيد الموقف لا يقطعه إلا صوت المونيتور أو بعض الآهات الخافتة من بعض المرضي، و كانت (أمل) ممدة تتناوب عليها الممرضات من وقت لآخر وهي غائبة لا تقوى على الحديث بيد أنها كانت تشعر و هم لا يشعرون أنها تشعر ! كانت تتحدث و لا يسمعها إلا الله ، تتساءل إلى أين المصير يارب؟
كانت تعلم أنها النهاية و شريط العمر يمر و راحت تذكر نفسها بصالح أعمالها حتى يعظم رجاءها و تحسن الظن بربها ثم قالت : يارب أنت لا يعجزك شيئ و رجائي فيك لا ينقطع و أنت خير الوارثين ما شئت كان و ما لم تشأ لم يكن ناصيتي بيدك ماض فيّ حكمك عدلً فيّ قضاؤك أبوء لك بنعمتك عليّ وأبوء بذنبي فاغفر لي ، توفني مسلمةً و ألحقني بالصالحين .
ثم خفتت مناجاتها شيئاً فشيئاً و تحركت الممرضة بسرعة تستدعي الطبيب هناك تغير في وضع أمل جاء الطبيب و رن جرس الإنذار و اجتمع بعض الأطباء ليروا ما هو سبب التشنجات المفاجأة هل هي لحظة الاحتضار أم ماذا ؟
في هذه اللحظة كان (حسام) قد أنهي صلاة الفجر و ذهب مسرعاَ عند الحاجز الزجاجي ففزع من هول ما رأى و عدد التمريض وارتباك الأطباء و أسدلت إحدي الممرضات الستار فأصبح (حسام) لا يري شيئاً ،فقط يشعرانخلاع قلبه ، ما هذا إنهم يزيلون عنها أنبوب التنفس آآآآآه .
سقط حسام علي ركبتيه و هو يردد إنا لله و إنا إليه راجعون في هذا الوقت كانت أسرة (أمل) قد وصلت و شاهدوا حسام بهذا الحال فانتقل انهياره إليهم ثم خرج الطبيب إليهم ولكنهم تعجبوا للغاية إن الطبيب يبتسم ، أي دماء تلك التي تجري في عروقه ؟ بادرهم قائلا : بدلا من هذا البكاء افرحوا وابتسموا لقد حدثت آية من آيات الله لقد تحسنت تحسناً ملحوظاً و والوضع شبه مستقر ! قال حسام : و لكنكم أزلتم عنها أنبوب التنفس ؟ قال الطبيب :نعم لم تعد تحتاجه و هي الآن تحت تأثير المخدر و نرجو أن تكون بخير .
جلسوا جميعاً في غرفة الانتظار و قد تبدل خوفهم أمنا و قلقهم أملاً كيف يحيي الله الأرض بعد موتها ؟
نحن نعلم جيدًا أنه لا أحد منا يعرف ما يخبئه الغد ، ولكنه في الواقع أمر غير طبيعي ، بالنسبة لنا - كبشر- على الأقل ، فعلا ليس لنا من الأمر شيئ لا في أنفسنا و لا في أي شئ مهما صغر و لكننا عند الأزمات نفقد سيطرتنا علي أنفسنا وعلى الأشياء من حولنا .
لقد جاء الأمل إلي (أمل) من سم الخياط (ثقب إبرة) و كذلك ممكن أن يحدث لنا جميعا ، إننا نحتاج دوما إلى تقوية الرجاء في الله وتعظيم الأمل في أنفسنا و في نفوس الآخرين .
لعلك عزيزي القارئ شغوفا ً لمعرفة ما حدث مع أمل بعد ذلك . . لا تقلق فهي متعلقة بالله ثم بالأمل.
زودتنا قصة أمل بفيض من الأمل ❤️
ردحذف