الآنسة إنصاف
لم تكن الآنسة (انصاف ) صاحبة الخمسين عاماً حزينة لفوات قطار الزواج كما كان يظن كل أفراد أسرتها ، بل كانوا لا يصدقون نفيها إن نفت ذلك و الحق أنها كانت صادقة فما كان يشغلها أعظم بكثير من فكرة الزواج بكل ما يحتويه ، لقد دفنت بين ضلوعها سراً خافت أن يطلع عليه أحد ، و احتملت ألماً كانت تظنه وصمة لن يغفرها المجتمع و لن يرحمها أحد بل رفضت أن تساعد نفسها خشية أن تصل إلي الجنون - من وجهة نظرها - لقد زارت طبيباً نفسياً ذات مرة في بداية محنتها و أخبرها ساعتها بحقيقة تلك المعاناة و عن أولئك الذين يطاردونها و يسرقون منها النوم و عن جهاز المخابرات الذي زرع في جمجمتها جهاز تنصت و عن أنها مخاوية نفراً من الجن . . لقد فسر لها الطبيب كل هذه الأمور بشكل علمي مبسط لكنها قالت في نفسها : ( مسكين هذا الطبيب محدود العلم ) و عاشت فترة تُكذب ما حدث و تنكره حتى زاد عليها ما تجد بشكل لا يحتمل ، فأخذت قراراً جديدا رغم أنفها بمعاودة زيارة الطبيب ، و من حسن الحظ أنه كان طبيباً واسع الأفق رحيم بمرضاه فأخذ يشرح لها قائلا : إن الإشكال في المرض النفسي يا آنسة انصاف يكمن أنه يمكنك أن تعرف إذا كنت مصابًا بمرض السكر أم لا بتحليل نسبة السكر في الدم، والأمر نفسه ينطبق على الأنيميا، وغالبية الأمراض العضوية الأخرى، الأمر الذي تفتقده الاضطرابات النفسية، إذ لا يمكننا الكشف عن وجود اضطراب نفسي معين باستخدام الفحوصات والتحاليل المعملية، مثلما يحدث في الأمراض العضوية، وهذا أحد أسباب تسميتها اضطرابًا لا مرضًا، لذلك يعتمد المختصين تمام الاعتماد على ما يخبرهم به الناس، للتعرف على ما يعانونه من الاضطرابات النفسية وتشخيصها، إضافة إلى ما يتبين لنا من خلال مظهرهم، كلامهم، أفكارهم، سلوكهم، وهو ما تُعرفه بـ “أعراض الاضطراب النفسي” أو مجموعة العلامات التي إذا اجتمعت في شخص ما أمكن تشخيصه اضطرابًا نفسيًّا معينًا.
وما أن أنهى كلماته حتى انفعلت جدا ً و استشاطت غضبا و غادرت العيادة بأسوأ قرار اتخذته في حياتها لن أتناول أي أدوية مهما حدث و بالفعل . . كانت تمر عليها الليالي تتلوي علي جمر الألم تنهشها أعراض هذا الاضطراب المرعب (الذهان) فتارة تفقد تركيزها تماما و لا تشعر بأي شئ فقط تجلس هكذا و للأسف الشديد لم يهتم أحد لما أصابها وصموها أنها ( بتاعة ربنا ) المهم أن يأخذوا راتبها الكبير من معاش أبيها و يلقون لها فتات الطعام و لا يمنع إن جاءتها نوبة هياج أن يقوموا بربطها بحبل في ركن الغرفة دون وازع من رحمة ، و في عشية يوم هادئ كانت تزورهم قريبتها (أشرقت) الفتاة المستقيمة الطيبة و طلبت أن تدخل إلي أنصاف حجرتها ـ فقالت لها أخت (أنصاف ) لماذا تدخلين إنها في ملكوت تاني ،أصرت (أشرقت) و دخلت إلي الحجرة التي تشبه ثلاجة الموتى حيث رائحة الموت و لسعة الفوت ، نظرت (انصاف ) بحذر إلي أشرقت و قالت : أنت جاية تقبضي عليا و تاخدي فلوسي أنت من جيش الأعداء .
طأطأت (أشرقت) رأسها و دموعها نغادر مقلتها من هول ما رأت و قالت : لا . . لا أنا أشرقت بنت عمتك متخفيش مني أنا أحبك .
كانت انصاف هادئة نوعاً ما في هذا اليوم ومسحت دموع أشرقت ثم أخرجت من تحت سريرها سرة قماش عتيقة فتحتها بين يديّ أشرقت و كانت المفاجأة آلاف الجنيهات !
تمالكت أشرقت نفسها قائلةً : ما هذا ؟ من أين لك هذا ؟
التفتت (انصاف ) بتوتر شديد وقالت : هسسس الفلوس دي خليها عندك كل دول العالم بتطاردني عشانها وعاوزين يعرفوا التعويذة .
أخذت أشرقت المال و خرجت متحدثة بلهجة شديدة لأخت (أنصاف )اتقوا الله فييها لا بد أن نزور طبيب بشكل عاجل ، وبمنتهى البرود كان رد أختها : من أين نأتي بالمال لا داعي للذهاب هي أيامها في الدنيا معدودة سيبيها علي الله.
خرجت أشرقت آسفة َ لهذا الحال و لتلك النفوس الخالية من الرحمة و قد هداها تفكيرها أن تذهب هي لزيارة طبيب تستشيره في أمر انصاف و بالفعل وجدت طبيبا و ذهبت اليه وقصت عليه الخبر فانزعج الطبيب جداً و سألها هل كان هناك محاولات لإيذاء النفس؟
أجابته نعم كلتا يديها مشوهة بالسكين و حاولت حرق نفسها أكثر من مرة .
فقال الطبيب : إنها الآن في مرحلة مضاعفات الذهان لابد أن تذهب اليوم إلى المستشفى ، اليوم وليس غداً يا أستاذة .
جرت أشرقت أذيال الخيبة ، ماذا تفعل مع أناس لا خلاق لهم ، ثم قفزت إلى ذهنها فكرة أن تعالج (انصاف) من مالها الذي أعطته إياها ، فسكنت نوعاً ما وقالت غدا سأذهب اليهم و أكسر حجتهم في عدم علاجها .
آوت أشرقت إلى فراشها استعدادا ليوم غد وما إن غفلت عينها حتى وجدت أمها توقظها بلهفة وفجعة تبلغها أن انصاف لقت مصرعها ، لم تتمالك أشرقت نفسها قامت فزعة و طلبت من أخيها إيصالها فورا إلي حيث بيت انصاف ، و راحا يطويان الطريق بسرعة كبيرة توقفت سيارتهما بالقرب من العمارة العتيقة محل سكن انصاف و لكن ما هذه الاسعاف و ماذا يفعل رجال الشرطة هنا ؟
و كانت الصدمة لقد طعنت انصاف نفسها خمس طعنات بالمقص و لقيت ربها و هو أرحم بها من أهلها و تخلصت من ألم الدنيا المقيتة .
وفي اليوم التالي و بعد أن تمت عملية الدفن حدثت أشرقت نفسها قائلة : كم نفرط في العناية بأحبابنا و الساعة بل و الدقيقة قد تشكل خطاً فاصلا بين الموت و الحياة و عزمت على تعلم مهارة التفقد لأحبابها صحيحهم و سقيمهم ثم أعطت الميراث لأهل انصاف و هي كارهة غير أن الأمانة لا تحركها العاطفة نظرت إلى شرفة أنصاف قائلة : سلام عليك يا انصاف ، رب ينصفك في الآخرة و يعوضك مرارة الأيام.
النهاية.
إرسال تعليق
يمكن أن تترك تعليقا